الوطنية بريس حميد عسلاوي

 

يمثل الاحتفال بعيد الاستقلال لحظة للقيام بوقفة تأملية تستحضر تاريخ المغرب الغني بالأمجاد وبالمحطات المشرقة من أجل الذود عن مقدسات البلاد، ومناسبة لاستلهام ما تنطوي عليه هذه الذكرى من قيم سامية وغايات نبيلة، لإذكاء التعبئة الشاملة، وزرع روح المواطنة، وتحصين المكاسب الديمقراطية، ومواصلة مسيرة الجهاد الأكبر، وتثبيت وصيانة الوحدة الترابية للمغرب، وربط الماضي التليد بالحاضر والمستقبل المجيد.

فبهذه المناسبة يخلد الشعب المغربي قاطبة بمشاعر الفخر والاعتزاز، ذكرى عيد الاستقلال، الذي يشكل حدثا تاريخيا مجيدا، وملحمة كبرى تجسد انتصار إرادة العرش والشعب والتحامهما الوثيق دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية.

وتعد هذه الذكرى المجيدة (18 نونبر من كل سنة) أحد المنعطفات التاريخية التي طبعت مسار المملكة ومن أغلى الذكريات الوطنية الراسخة في قلوب المغاربة لما تحمله من دلالات عميقة ودروس بليغة وبطولات عظيمة وتضحيات جسام وأمجاد تاريخية خالدة.

ولذ يلزم التذكير بتاريخ أمتنا المغربي المجيد، والإنسان مرتبط بتاريخه القديم والحديث، لا يعيش الحياة الطيبة بدون تاريخه، إذ البلاد بدون تاريخ كهيكل بلا روح، وهي ذكرى تذكرنا بنعمة الحرية والاستقلال، والتحرر من ربقة التبعية والاستعمار.

والاستعمار في قاموس أصحابه المستعمرين: يرادف القتل والتشريد والنهب والسرقة والاستغلال، وتعذيب الرجال بالأعمال الشاقة والسجون والمنافي، ولهذا سماه البعض بالاستخراب.

ولا يعترف بنعمة الاستقلال ويعرف فضلها، إلا من عرف نقمة الاستعمار؛ فالاستعمار مهما فعل لا يعدو أن يكون نقمة، بل أكبر نقمة على الأمم والشعوب، لا يرضى به إلا من ألف المذلة والمهانة، ولا يقبل به إلا من لا قيمة عنده للحرية والشرف والديانة.

ونقمة الاستعمار تتجلى في أمرين يشكلان أساس أهدافه في بلاد المسلمين هما: سرقة ثروات البلاد وهي النقمة المادية، وإفساد أخلاق الدين وهو النقمة المعنوية، وهي الأهداف نفسها التي شُنَّتْ من أجلها الحروبُ الصليبية على بلاد المسلمين.

فالأمر الأول الذي هو سرقة ثروات البلاد فقد تجلى ذلك في الاستيلاء على الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، بدءا من اليد العاملة المجانية بدون مقابل، إلى المعادن النفيسة، إلى المنتوجات الفلاحية، إلى الصيد البحري، حتى أشجار الغابات تم قطعها واستئصالها، ليشحن كل ذلك إلى بلاد المستعمر، تاركا وراءه أصحاب البلاد معرضين للقفر والجوع والأمراض.

فقد قتل الاستعمار وشرد ونهب ويَتَّم ورمَّل وعذب، وفعل كل الجرائم المحرمة دينيا ودوليا من أجل نقل ثروات الأوطان إلى بلده، لتصير قُوتَه فيستمتعَ بها، وليصنع منها قُوّة يسيطر بها، وهذه هي نقمة الاستعمار المادية التي عانى منها آباؤنا وأجدادنا.

أما نقمة الاستعمار المعنوية: فتتجلى في محاربة كل ما له علاقة بالإسلام، فالاستعمار لا يكفيه السيطرة على خيرات البلدان الإسلامية المادية فحسب؛ بل يريد أيضا إبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف، وقد سلك المستعمر لإفساد الدين مسالك شتى.

منها: إفساد الأسرة، ولتحقيق ذلك سلط أضواءه الكاشفة الغاشمة على المرأة وحقوقها، مدعيا أنه يريد تحريرها وإنما أراد التغرير بها لتتمرد ففعلت؛ فتبرجت بكيفية تغري الذئاب الجائعة من الرجال بالفتنة بها، والإيقاع بشرفها ونسف عرضها، فتغزو القلوب بجمالها وفتنتها، في الوقت الذي يغزو الفساد عِرضها وشرفها؛ وما كانت جداتُ آبائنا ولا جداتُنا وأمهاتُنا قبل الاستعمار يَعْرِفن هذا أو يخطر ببالهن.

ومنها: إفساد التعليم بفصله عن الدين، وقد كان قبل ذلك يتكون الطبيب وهو فقيه، مثل العائلات العلمية المشتهرة بالطب في تاريخ الإسلام؛ ابن رشد القرطبي الجد والحفيد، وابن زهر الإشبيلي الجد والحفيد، والإمام المازري وغيرِهم من الأطباء الفقهاء، وكذلك يتخرج القاضي فقيها ومحدثا، بل لا يكون القاضي قاضيا إلا إذا كان فقيها ومحدثا، ولنا في القاضي أبي بكر ابن العربي وعياض خير دليل، فلما جاء الاستعمار بدأ يتخرج عندنا المتخرجون في جميع المجالات وهم أميون في الدين.

وهذا كله نتيجة مخططات هذا الاستعمار التي استمرت واستُثْمِرَت مع الأسف حتى في الاستقلال، حيث زرع وما زلنا نحصُد نقمة ما زرع إلى اليوم.

ومنها: تهميش دور العلماء والفقهاء، حيث لم يترك لهم أي مجال اجتماعي يتحركون فيه، ولم يبق لهم إلا المساجد، فهمشهم الاستعمار فيها كما همش في بلاده الأحبار والرهبان في كنائسهم، ولم يترك لهم إلا أمر الزواج، وصكوك الغفران. ومن ثم نعلم حركة العلماء النضالية التي قاموا بها ضد المستعمر الغاشم مثل العلامة المناضل محمد المكي الناصري، والعلامة عبد الله كنون، وقبلهما العلامة محمد بن العربي العلوي وغيرهم.

فالاستعمار الذي خرج من البلاد يحاول دائما العودة مرة أخرى، خرج من الباب ليعود من النافذة، ليستعمر الاقتصاد عن طريق الديون والقروض والتصدير والاستيراد والشركات، وليستعمر التعليم عن طريق المقررات واللغات، وليستعمر الإعلام عن طرق برامج الفساد والانحلال، وليستعمر العقيدة عن طريق التنصير والتبشير.

وحتى ينجح الاستعمار في خطته تلك في بلدنا المغرب بادر إلى التفريق بين العرش العلوي الشريف، والشعب المغربي المنيف، لكي يستفرد بخيرات هذا الوطن ويصده عن دينه، حتى جاء جلالة المغفور محمد الخامس يقود العرش، ليلتحم بالشعب وفي قيادته العلماء، فحارب هذا الاستعمار الصليبي الذي يستنـزف خيرات البلاد ويذل العباد، ويشوه كل ما له علاقة بهوية الإسلام، حتى أدت به وقاحته إلى أن يمد يده الأثيمة لرمز البلاد محمد الخامس طيب الله ثراه، فنفاه إلى منفاه السحيق، ظنا منه أن الجو سيخلو له وأن الاستغلال سيحلو له، ناسيا أن كل مغربي يحمل في قلبه شخصية قائده، فقامت المقاومة بما يسمى اليوم بحرب العصابات ضد أفراد الاستعمار والخونة، فقدموا من أجل ذلك آلاف الشهداء، ولم تثن عزائمهم السجون ولا المنافي السحيقة، كل ذلك في سبيل الدفاع عن المقدسات الدينية والوطنية، الشيء الذي أرق الاستعمار وأقض مضجعه، فارتحل من البلاد وهو يجر أذيال الخيبة والندم، فيرجع مولانا محمد الخامس طيب الله ثراه إلى البلاد تاليا قوله –تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34].ومرددا: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، فنال المغرب الاستقلال، وذلك في اليوم الثامن عشر من مثل هذا الشهر.

فالاحتفال بهذه الذكرى هو مناسبة لتقوية أواصر التلاحم القائم بين العرش والشعب، ومناسبة لأخذ العبر والدروس من الماضي للأجل العمل في الحاضر وبناء المستقبل.

وها هو جلالة الملك محمد السادس -حفظه الله يقود قطار الجهاد الأكبر جهاد التنمية وبناء الوطن بحكمته وحنكته، في مساعيه الحميدة وجولاته التنموية، يواصل بعزيمة الأبطال، مسيرة الإنجازات الإنمائية من أجل رفاهية شعبه وراحة رعيته، تجسيدا لآمال المواطنين وأمانيهم، للسير قدما بهذا البلد نحو التقدم والرقي والازدهار، في ظل الثوابت والمقدسات، وفي ظل المثل العليا والقيم الخالدة.

حفظ الله مولانا الهمام، وسدد خطاه وأمد في عمره وأبقاه، وحفظه في شعبه ووله عهده وأسرته.

وتغمد الله بواسع رحمته الملكين المجاهدين: مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم ارحمهما واجعل مقامهما عندك في عليين آمين.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email