الدكتور حسن الجامعي
الحمد لله الذي جعلنا من أمة المصطفى، النبي المجتبى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق وحبيب الحق، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد، فمن المعلوم ضرورة أن كل إنسان له انتماء إلى محيطه الذي يحيى فيه، بحيث يحبه ويفخر به ويدافع عنه بالغالي والنفيس. وهذا الأمر لا يقتصر على الإنسان العاقل، المفعم بالأحاسيس والعواطف الجياشة اتجاه محيطه، بل يتعداه إلى الحيوان، يقول أبو عثمان الجاحظ في كتابه ” الرسائل ” : ( أكرم الإبل أشدها حنينا إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس ). وإلى هذا أشار أبو سعيد الأصمعي في ” كشف الخفاء ” فقال : ( قالت هند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بعيدا، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعا ). ولذا فالإنسان يألف ويؤلف، لأن طبيعته اجتماعية يحيى داخل التجمعات البشرية. وهذه الألفة تحتم عليه محبة أرضه ووطنه. يقول الجاحظ : ( محبة الوطن شيء شامل لجميع الناس، وغالب على جميع الجيرة ). من ثم إذا تحنن الرجل إلى وطنه، وتشوق إلى إخوانه، وبكى على ما مضى من زمانه فاعلم أنه وفي كريم مخلص لمنبته.
غير أننا في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المصالح بالواجبات، والغنم بالحقوق بتنا نسمع أطروحات ضد حب الوطن، وتذهب إلى أن هذا الحب جريمة وخيانة للقضايا التي تثار بين الحين والآخر منطلقها النفعية والاستغلال الأعمى للقضايا الكبرى والثوابت التي تحتم على الجميع أن يتخندقوا في خندق واحد. ومرد هذه الهجمات ومقصدها نسف أصل السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، والخروج عليهم.
من أجل ذلك ارتأيت تناول موضوع ” حب الوطن دراسة تأصيلية ” لأكون بذلك أسهمت في تنوير الرأي العام ورد بعض الشبهات التي تثار داخل وخارج الوطن، سائلا المولى عز وجل أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويحفظ بلدنا من كل شر نازل أو صاعد.وذلك من خلال الترسيمة التالية:
أولا: حب الوطن مشروع وطبيعة إنسانية.
ثانيا: حقوق الوطن ونواقضه.
ثم خاتمة.
أولا : حب الوطن مشروع وطبيعة إنسانية.
لقد جاءت النصوص الشرعية تقرر حب الأوطان ومشروعيته، ولو تأملنا النصوص الواردة في هذا الموضوع تجاه حب الوطن لما وسعنا الوقت لطرحها جميعا، فهي كلها تؤكد هذه المحبة وتأصلها، ومن هذه النصوص قوله تعالى: (( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد )). وجه الدلالة ما ذكره القرطبي في تفسيره، عن مقاتل قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل : (( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد )) أي إلى مكة ظاهرا عليها. فدل على أن حب الوطن متقرر في الكتاب.
ومنه قوله تعالى: (( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم … )). وجه الدلالة ما قاله السعد في تفسيره : ( يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه ). فقرن الله تعالى قتل النفس بالخروج من الديار، فكما أن قتل النفس شديد على النفس، صعب الإتيان فكذلك التهجير والخروج من الوطن أمر شديد على النفس عظيم على القلب.
وقال أيضا : (( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )). وجه الدلالة أن القرآن تحدث عما يقوم به أعداء الدين والملة من تهديد أولياء الله بالإخراج من أوطانهم ونفيهم منها، فدل على أن حب الوطن مذكور في القرآن، وأنه مشروع.
فكل هذه الآيات وغيرها كثير تدل على أن الإنسان لا يخرج من وطنه إلا بالقوة والإكراه، أو الخوف على الدين والنفس والمال والولد، أو لطلب الرزق أو العلم. فتبث بذلك أن حب الوطن متقرر في نفس الإنسان ومرتكز، وأن هذا الحب لا يتنافى ما دين الإنسان وعقيدته.
كذلك في السنة أحاديث كثيرة تقرر أن حب الوطن مسألة جبلية ودينية في الإنسان، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال : (( أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت )). فأظهر عليه الصلاة والسلام حزنه الشديد على فراق خير الأوطان وأحبها إلى الله تعالى.
الحديث الثاني ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله )). يقول الدكتور عبد السلام البرجس: ( إن العلماء رحمهم الله ذكروا أن المسافر يستحب له إذا قضى نهمته من سفره أن يعجل بالرجوع إلى أهله، في أي سفر كان، أي سواء كان سفر طاعة وقربة، أو سفر نزهة أو استجمام ). وبالتالي إذا كان هذا حال من سافر راضيا غير مكره ولا مجبر فكيف بمن أخرج من وطنه قهرا وغصبا ؟
فما ورد في هذه النصوص يؤكد حقيقة يتجاهلها من في قلبه مرض ويسعى إلى الفتنة والفرقة أن قصص إخراج الأنبياء من أوطانهم وشوقهم إليها دليل على حب الوطن.
أما كونه طبيعة وغريزة فحب الانتماء خصلة جبل عليها الإنسان، وفطرة سليمة توافق الطبيعة البشرية ولا تصادمها، قال تعالى : (( فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )). فهذا النص القرآني يدل على أن الله عز وجل فطر الناس على حب الخير، ومن حب الخير حب الوطن، وما كان خروج الأنبياء من أوطانهم برغبتهم ولا رضاهم، لأنهم يحبون أوطانهم ويحنون إليها، ويشتاقون إلى الأرض التي ترعرعوا فيها ونشئوا على ترابها.
فحب الوطن أمر غريزي مذكور في كلام السلف والخلف، يقول إبراهيم بن أدهم : ( ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان ). ويقول الجاحظ : ( لو لا حب الناس الأوطان لخسرت البلدان ). ويقول أيضا : ( من إمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه ). وعنه أيضا : قيل لبعض الأعراب: ما الغبطة ؟ قال : الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان، قيل : فما الذلة ؟ قال : التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان . وعليه فحب الوطن غريزة فطرية في جميع البشر مع اختلاف مللهم ونحلهم، والانتماء للوطن يعني حبه والاستعداد للتضحية من أجله، والمحافظة على كيانه الاجتماعي من خلال الالتزام بالقيم الوطنية السائدة في المجتمع .
ثانيا: حقوق الوطن ونواقضه.
جاء في الأثر: ( من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له ). فإذا تقرر هذا المعنى وتبث في قرارة نفوسنا حب الوطن لزمنا أن نعلم أن لهذا الوطن الذي هو محل عبادتنا، وولادتنا، وفيه أهلونا ومحبونا حقوقا تجب على جميع المواطنين لنرد شيئا من جميله. فكما أخذنا منه نعطيه، وما أخذناه في الطفولة وما تلاها من مراحل العمر هو دين يقض يوم الرجولة، وما نراه اليوم من بعض المغرضين الانتهازيين النفعيين الذين يتربصون بالوطن الدوائر، ويتأهبون في كل حين للانقضاض على خيرات البلاد عند كل غفلة من رقيب لا صلة له بحب الوطن وإن ادعوا ذلك ليل نهار، ومن هذه الحقوق:
1 – مساندة ولاة الأمور في عملهم، والوقوف معهم في سياستهم، والتأكيد على أنهم محل الثقة والتقدير والاحترام، وبالطبع ما لم يتصادم ذلك مع الشريعة الغراء ومقاصدها. فالالتفاف حول ولي الأمر ومؤازرته يساعده ويمكنه من القيام برسالته ووظيفته في خدمة الوطن والنهوض به.
2 –  التفاف أفراد المجتمع حول ولي الأمر وتكاثفهم يعتبر من مقتضيات حب الوطن، فالاجتماع رحمة والفرقة عذاب، ولنا في التاريخ عبرة لمن أراد أن يعتبر، فتهافت الدول وانهيار الحضارات كان سببه التنازع والاختلاف.
3 – كل مواطن يعتبر جنديا من موقعه وتخصصه، والواجب على كل فرد أن ينفع وطنه بما يحسنه ويتقنه، فالعالم له مسئولية تجاه وطنه بالتعليم والدعوة والإرشاد والنصح، والمعلم له مسئولية بالتدريس والتوجيه، والعامل والنجار والحداد والطبيب والمهندس والتاجر والمحامي، وكل مكونات المجتمع له مسئولية تجاه وطنه. هذه باختصار بعض حقوق الوطن وغيرها كثير ليس هذا مقام التفصيل فيها، فما هي نواقض حب الوطن ؟
يمكن الحديث عن نواقض حب الوطن من خلال محاور ثلاثة:
المحور الأول: العدوان الفكري: والمقصود منه الذي يسعى ويريد بوطنه سوءا بما يروجه من أفكار تسعى إلى نقض عرى المحبة والوطنية والمواطنة، و تعمل على تسميم أفكار الناشئة باليأس وإظهار النصح وادعاء المصلحة العامة، كما يقدم السم في الطعام الدسم الذي يغري ظاهره وباطنه من قبل الهلاك والدمار.
المحور الثاني: العدوان الأخلاقي والاجتماعي: وذلك بالسعي إلى نشر الرذيلة والترويج لها، وتزيين كل رجس يأتي على أساس بنيان المحبة، ويحارب الوطن ويخونه.
المحور الثالث: العدوان الجنائي: وذلك بترويع الآمنين وإهلاك الحرث والنسل والاعتداء على الأموال والأعراض، فمن يسعى في ذلك فإنه يوغل القلوب بالكراهية، ويفسد في الأرض ويدمر الوطن.
هذه باختصار شديد بعض ملامح حب الوطن والتفاني في خدمته.
خاتمة:
من خلال ما سلف ذكره وبلدنا الحبيب خطا خطوات جبارة استشرافية للمستقبل، يمكن اعتماد قول القائل : ( أعط القوس باريها )، وقول ابن حجر: ( من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب ). فالشأن العام الذي تنهض به وعليه الأمم لتصل إلى مصاف الدول المتقدمة له رجالات يقدرون الأمور حق قدرها ويوازنون بين المصالح والمفاسد، فلا معنى أن يتصدر العوام أو من لا يحسن هذا الشأن بوازع العاطفة الخالية من العقل والمنطق فيلوح ويندد وينتقد وهو أبعد ما يكون من التحولات التي يعرفها العالم اليوم. فالواجب علينا التزام جادة الصواب خلف من استرعاه الله عز وجل هذا الوطن، ونثمن الجهود الجبارة التي سوف تحقق ما يصبو إليه كل وطن من العزة والكرامة والرفعة.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email