الحمد لله العلي الأرفق، وجامع الأشياء والمفرق، ذي النعم الواسعة الغزيرة، والحكم الباهرة الكثيرة، ثم الصلاة مع سلام دائم، على الرسول القرشي الخاتم، وآله وصحبه الأبرار، الحائز مراتب الفخار.

وبعد، فإن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، فقد خلق الكون كله، علويه وسفليه، واختار من ذلك ما شاء من الأمكنة والأزمنة ففضل بعضها على بعض. فاختار من الأزمنة شهوراً وأياماً وساعات معينة فضلها بمزيد من الفضائل، فمن الشهور شهر رمضان، والشهور الأربعة الحرم: ذو العقدة وذو الحجة، ومحرم ورجب. ومن الأيام يوم عرفة، ويوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر. ومن الساعات: آخر ساعة من يوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، وما إلى ذلك من الأزمنة الفاضلة. واختار من الناس الأنبياء والرسل، ومن الرسل أولي العزم، ومن أولي العزم محمداً صلى الله عليه وسلم. وكما فضل بعض الأزمنة على بعض فقد فضل بعض الأمكنة على بعض، ومن هذه الأمكنة التي فضلها الله على سائر الأماكن: المساجد، فهي أحب البقاع إلى الله؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). ولذا ففي هذه الأيام المباركة حيث تتنزل الرحمات الربانية، وتعم النفحات الإلهية، ينبغي للمسلم أن يتعرض لهذه النفحات القدسية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن لربكم في دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها )). ومن هذه النفحات:

النفحة الأولى:

نفحة التوبة، وهي عبارة عن تخلية قبل التحلية، وتصفية قبل التربية والتزكية، ومثل تطهير القلب بالتوبة كغسل الإناء قبل ملئه بالماء، ومن ثم فرمضان فرصة للمذنبين فيه تصفد الشياطين وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، والأمور التي تعين على تحقيق التوبة:

أولا: معرفة الله بأسمائه وصفاته، وهذه المعرفة لا تتم بمجرد النظر بل بقلب خاشع معظم لله ومحب له ومجل لقدره، والمعرفة تتحقق بما يلي:

•معرفة اطلاع وحياء: فتستحيي أن تعصي الله عز وجل وهو يراك ويسمعك، فتستشعر عظمته وسلطانه، ثم تستحيي من الملائكة الذين سخرهم الله عز وجل لحفظك.

•معرفة محبة ورجاء: فالمحب للمحب مطيع فلا تجتمع في قلب عبد محبة خالصة لله عز وجل، ومعصية تجلب سخطه وغضبه.

•معرفة تعظيم وخوف: وتكون باستحضار غضب الله وانتقامه، والله عز وجل من أسمائه الستير يستر على عباده ويعفو ويغفر، لكن إذا تمادى العبد في المعصية جلب على نفسه غضب الله وانتقامه فيفضحه.

ثانيا: مجاهدة النفس وتحقيق الصبر بأنواعه الثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله عز وجل، ورمضان هو عين الصبر فمن حقق هذه العبادة كان له الجزاء الأوفى الذي لا يعرف حقيقته إلى الله تعالى، قال سبحانه : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )). وذكر المفسرون أن الصابرين في الآية هم الصائمون.

ثالثا: استحضار العوض: فالعبد إذا ترك المعصية خوفا من الله عوضه الله خيرا منها، قال سبحانه : (( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )).

رابعا: شكر النعم، فمن شكر استحق الزيادة ومن كفر وجحد استحق العذاب، والنعم إذا شكرت قرت واستقرت، وإذا كفرت ولت وفرت، قال تعالى : (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )).

خامسا: الدعاء والانكسار بين يدي الله عز وجل، وكل يعمل على شاكلته، فشاكلة العبد الذنب والمعصية، وشاكلة الرب العفو والمغفرة.

النفحة الثانية:

نفحة الصيام، وأقصد صياما بإيمان واحتساب. إيمانا بأن يعتقد الصائم أن الله عز وجل هو الذي فرض عبادة الصيام فينصاع لأمره وينقاد، واحتسابا أي أن يرجو الأجر والثواب منه سبحانه لا من غيره على عبادة الصيام. يحكى أن بعض السلف اشتهى طعاما وكان صائما فوضع بين يديه عند الإطار، فسمع سائلا يقول : من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال : عبده المعدم من الحسنات. فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات جائعا.

النفحة الثالثة:

نفحة القرآن وأفضل أوقات قراءة القرآن الليل، فمدارسة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان كانت ليلا، وذلك أن الليل تنقطع فيه الشواغل، ويتواطأ القلب واللسان على التدبر، قال تعالى : (( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا )). وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو – أي شهر رمضان – قراءة القرآن وإطعام الطعام . وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان فر إلى قراءة القرآن وانقطع عن مجالس التحديث والعلم.

النفحة الرابعة:

نفحة القيام، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )). ولذا فالقيام في رمضان يحتاج إلى إعداد نفسي وتهيئ قلبي كما قال تعالى : (( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة )). والاستعداد يكون بالتقليل من الطعام والتطهر والتطيب والتبكير في الحضور إلى الصلاة.

بالإضافة إلى هذه النفحات من رحمة الله عز وجل فإن شهر الصيام له خصائص عظيمة وفضائل كثيرة، ومن هذه الفضائل:

أولا: أن الله عز وجل أعد للصائمين بابا في الجنة يقال له الريان لا يدخله غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان )).

ثانيا: اختص الله عز وجل بأجر الصيام للحدي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به , فو الذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك … )).

ثالثا: هو شهر تقل فيه الشرور وتكثر فيه أعمال الخير، وذلك لأنه شهر تصفد فيه الشياطين وتفتح فيه أبواب وتغلق أبواب النار. روى الترمذي وابن ماجه وغيرهما : (( إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب , وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادي : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار , وذلك كل ليلة )).

رابعا: أن الله سبحانه وتعالى يضاعف الصالح من عمل ابن آدم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم جعل جزاءه من نوع خاص إذ أن الصوم لله تعالى وهو يجزي به فالذي يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الرحمن الرحيم يعطيه الله تعالى فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع طعامه وشرابه من أجلي , للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه , ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك )) – متفق عليه .

خامسا: أن الله جعل فيه ليلة القدر , التي هي خير من ألف شهر , كما قال تعالى : (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )) القدر / 1_5 . وقال أيضا : (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ )) الدخان / 3. لذا  فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى رَمَضَانَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ , وَفِي بَيَانِ مَنْزِلَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْقَدْرِ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ , تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ , وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ , وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ , لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ,مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ )) رواه النسائي ( 2106 ) وأحمد (8769) صححه الألباني في صحيح الترغيب ( 999 .

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) رواه البخاري (1910) ومسلم ( 760 ) .

سادسا: أن لله في كل ليلة منه عتقاء من النار ، روى الإمام أحمد (5/256) من حديث أبي أُمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لله عند كل فطر عتقاء )). قال المنذري : إسناده لا بأس به . وأيضا حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة _ يعني في رمضان _ , وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة )).

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عتقاء شهر رمضان وأن يكتبنا فيه من الصائمين القائمين وأن ينعم علينا بالأمن والأمان، إنه ولي ذلك ومولاه.

الدكتور حسن الجامعي

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email