الدكتور حسن الجامعي
الحمد لله الذي عرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحمل الإنسان، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الأنام، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
وبعد، فيعتبر موضوع المسئولية من أهم المواضيع التي يلزم مدارستها، وبيان حدودها، وتوابعها وآثارها على المجتمع. فهي متشعبة الفروع، ممتدة في الزمن وسائر الربوع، عالجتها الشريعة الإسلامية في إطار السياسة الشرعية، ودرستها الدساتير والقوانين الوضعية، لأهميتها لإقامة الحياة في العاجل والآجل. فما هو مفهوم المسئولية وأركانها؟ وما هي أنواعها وتداعياتها من خلال الممارسة الفعلية على المجتمع ؟ وما هي خصائصها وعلاقتها بالمحاسبة ؟
مفهوم المسئولية وأركانها:
كلمة المسئولية مصدر صناعي من كلمة مسئول. جاء في المعجم الوسيط: ( المسئولية حال أو صفة من يسأل عن أمر تقع عليه تبعته )، ولها أبعاد مختلفة، فهي تطلق أخلاقيا على التزام الشخص بما صدر عنه قولا أو عملا. وتطلق قانونا على الالتزام بإصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقا للقانون. وتطلق تكليفيا على ما ينتظر المكلف من مواقف يوم القيامة لقوله تعالى : (( وقفوهم إنهم مسئولون )).
وأما أركانها فتتحدد في ثلاثة أركان: الأول: السؤال. والثاني: المسئول. والثالث: السائل. فيلزم من هذا التقسيم أن كل ما يسأل عنه ويحاسب المرء عليه في الدنيا أو الآخرة أو في كليهما هو مسئولية.
هذا ما يتعلق بالشق الأول من السؤال باختصار. أما الشق الثاني منه والمتعلق بأنواع المسئولية وتداعياتها من خلال الممارسة الفعلية على المجتمع:
فأولا: مسئولية الإنسان عن عمله، وأقصد مسئولية المخلوق اتجاه الخالق، فالإنسان مكلف ومحاسب أمام الله عز وجل عن مسئولياته الشخصية، في الحديث الصحيح: (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به )). فتكون المسئولية في هذا النوع شخصية، أي أن الله تعالى يسأل كل شخص عما قام به في حياته طاعة كانت أو معصية.
ثانيا: مسئولية المجتمع عن أفراده، فلم يحدد الإسلام المسئولية في نطاقها الضيق كمسئولية الفرد عن نفسه، والواسع كمسئولية الحاكم عن المحكومين، بل وسع الدائرة فجعل للمجتمع نصيبا أوفي عن مسئوليته اتجاه الأفراد، ووسيلته في تكليف الناس بالتكافل فيما بينهم، والتوادد والتآزر. في الحديث الصحيح : (( أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله )). وما نراه اليوم من تفشي ظاهرة أطفال الشوارع، والمتسكعين الذين لا يجدون لهم مأوى ولا كافلا ولا مربيا يقوم على أمورهم، فيغتنم ذوو النوايا السيئة ظروف هذه الشريحة المستضعفة فيستغلونهم جنسيا، أو في تجارة المخدرات، وغير ذلك من الأعمال الإجرامية، يتحملها المجتمع برمته، وللمسئولين الحظ الأوفر في هذه المسئولية. وقد ضرب السلف الصالح المثل الأعلى في المسئولية الاجتماعية، وتكافل أفراد المجتمع. في الحديث الصحيح : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء، فهم مني وأنا منهم )).
ثالثا: المسئولية داخل الأسرة، فالأسرة تعتبر اللبنة الأساسية في بناء مجتمع صالح وسليم. وقد حدد الإسلام المسئوليات الملقاة على عاتق أفرادها، ففي الحديث الصحيح : (( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته، وهم مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها، وهي مسئولة عنهم، … ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )).
رابعا: مسئولية الحاكم عن رعيته، فالحاكم الذي تم اختياره عن طريق الاستفتاء والتصويت الشعبي، مسئول أمام الله عما استرعاه، للحديث الصحيح : (( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته )). وتتحدد مسئولية الراعي أو الحاكم في رعاية شؤون الرعية وما يصلح حالهم وفق المبادئ المعترف بها شرعا أو قانونا، والتي تهدف إلى حراسة الدين وسياسة الدنيا. والواجب على من قلده الله أمور العباد أن يتقي الله فيهم، ويستشعر خطورة منصبه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( لو عثرت دابة على شط الفرات أخشى أن يسألني عنها الله لماذا لم تمهد لها الطريق ). ومن أعظم مظاهر استشعار المسئولية عند السلف الصالح، قصة أوردها ابن الجوزي حيث قال : ( بعث إلى عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوب، ثم صعد المنبر وعليه حلة، والحلة ثوبان، فقال : أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان : لا نسمع. فقال عمر : لم يا أبا عبد الله ؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك حلة. فقال : لا تعجل يا أبا عبد الله. ثم نادي يا عبد الله، فلم يجبه أحد. فقال : يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك ؟ قال : اللهم نعم. فقال سلمان : فقل الآن نسمع ). فمساءلة سلمان الفارسي الخليفة الراشد لم يغضب أمير المؤمنين، واحتجاجه لم يثر حفيظة الحاكم، بل تقبل الأمر ورفع الإشكال، وأذعن للحق ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.
أما خصائص المسئولية وعلاقتها بالمحاسبة، فالمسئولية التي أناطها الشرع والقانون بالحاكم، وقيده بها علما أن السماوات السبع والأرضين عرضت عليهن هذه المسئولية فأبين حملها وأشفقن منها، لكن تحملها الإنسان ظالما لنفسه وجاهلا بقدرها وما يترتب عليها من عواقب في الدنيا والآخرة. فما هي خصائصها ؟
أول خاصية أن المسئولية تستتبعها المحاسبة، فالفساد الذي يقع بين السلطة والرعية يبرز بجلاء ويستفحل عند انعدام المحاسبة، وقد حرص الشرع على تأكيد ضرورة محاسبة المسئول وتقييم أعماله وقراراته قبل تنفيذها وبعد تنفيذها، وأول القيود التي تقيد المسئول عدم الأمر بالمعصية، ففي الحديث : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )).
و ثانيها عدم تحميل الرعية فوق ما يطيقونه، فيكون الأثر السلبي على معيشتهم وأجورهم، وهذا مهيع الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )).
وثالثها مشاورة الرعية تحقيقا لفريضة الشورى التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له : (( وشاورهم في الأمر ))، وأمر بها عباده فقال : (( وأمرهم شورى بينهم )).
ورابعها مساءلة الحاكم من تحته من الولاة الذين استأمنهم على الرعية، ولنا في قصة عمر مع القبطي المصري خير مثال، فقد ذكر أهل السير أن رجلا قبطيا نصرانيا سابق بالخيل ابن والي مصر ابن العاص فسبقه، فقام ابن الوالي بسوطه وضرب القبطي وهو يقول : خذها مني وأنا ابن الأكرمين. فرحل القبطي إلى المدينة فشكى ابن الوالي إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطالب، فما كان من عمر إلا أن كتب إلى واليه بمصر أن يحضر هو وابنه. فلما مثل بين يديه، قال : أين القبط ؟ فقام الرجل وقال : ها أنذا. فقال عمر : خذ السوط واضرب ابن الأكرمين. فضربه حتى شفي غليله. ثم قال له عمر : مرر السوط على صلعة عمرو ابن العاص – أي الوالي – فقال القبطي: لقد ضربت الذي ضربني. فقال عمر : والله لو فعلت ما منعناك، فما ضربك إلا بسلطان أبيه. ثم توجه إلى واليه وقال كلمته الذهبية الشهيرة : يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ).
وخامسها التبادل في المسئوليات فالمسئول قائدا تتجلى مسئوليته في حسن قيادته لرعيته وابتغاء مصالحهم، ومسئولية الرعية تتمثل في إعانته على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح الدائم، ويدل على هذا الحديث الصحيح : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: …، ومناصحة ولاة الأمر )). وأيضا في الحديث الصحيح : (( الدين النصيحة ))، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )). فمتى ما قام كل من الأمراء والرعايا بالمسئوليات الموكولة لهم صلح الأمر واستقام. وإذا لم يقوموا فيعتبر ذلك خيانة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين. قال تعالى : (( يا أيها الذين لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )).
وأما علاقة المسئولية بالمحاسبة، فالحديث عنها طويل ذو شجون أقتصر على جزء مهم وطرف رئيس في هذه العلاقة وهو رجال الإعلام. فالإعلام يقوم بدور كبير في توجيه الرأي العام، وفي ترسيخ القناعات حسنها وقبيحها، والواجب على أهل الإعلام أن يعوا خطورة الدور الذين يلعبونه كمؤسسة وسيطة بين أهل الحل والعقد والمجتمع بكل شرائحه. فالإعلام الإسلامي المتمثل في الشعر كان وسيلة فتاكة تسقط أمما وتعليها. والأمانة الإعلامية تقضي بنقل المعلومات الصحيحة الصادقة دون تلميع أو تزييف أو تحريف أو تغيير. فليس الهدف الأساسي للإعلام إنصاف الظالم وتحطيم الرموز وتشويه صور الأخيار وتضليل الرأي العام. بل الواجب عليه أن يحدد الخلل ويبين مواطن الضعف حتى يسعى أهل الحل والعقد إلى تدارك الأمر وتصحيح ما يلزم تصحيحه، مع تقدير من يقومون بالمهام والمسئوليات المنوطة بهم والتنويه بدورهم وتقديم الجزاء لهم على غيرتهم وتفانيهم في خدمة الوطن.
ومن ثم وجب تطبيق نظام محاسبة المسئولية كأداة للرقابة وتقييم أداء المؤسسات الرسمية المكلفة برعاية الشأن العام. وذلك على مستوى الهيكل التنظيمي الإداري وإعداد الموازنات التخطيطية وتوفير نظام محاسبي لتقديم رزمة من الخدمات الأساسية للمواطنين، مع تطوير قدرات القطاعات التي توفر حاجيات المواطن. وبتعبير آخر تحقيق الضروريات كالصحة والتعليم والأمن والقضاء النزيه مع استقلاليته، وتوفير الحياة الكريمة والتركيز على عملية تفويض صلاحيات اتخاذ القرار الذي يعرف باللامركزية، وتقييم كفاءة المستويات الإدارية ومراكز المسئولية، وتكافؤ الفرص وترشيد النفقات. بذلك نحقق الهدف الأسمى من محاسبة المسئولية.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email