الدكتور حسن الجامعي

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، والصلاة والسلام على من سلك طريقه عاش سعيدا، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

وبعد، فقد تعالت في هذه الأيام دعوات تطالب بمراجعة السنة النبوية التي تضمنتها أمهات الكتب كصحيح البخاري وصحيح مسلم، وطالبت برد جلها لأنها بزعمهم تتناقض مع العقل أو العادة. وهذه الدعوات ليست جديدة وليدة الساعة، بل هي صرخات مرت عبر التاريخ شككت في الأحاديث الصحيحة وسعت إلى إقبارها، ومنطلق هؤلاء ليس الجهل أو البحث عن الحقيقة وإنما سعي ومحاولة لتقويض صرح الإسلام ونسف ثوابته. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القوم في حديث الذي رواه الترمذي عن أبي رافع عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )). فهذا الحديث العجيب يحذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من قوم سيظهرون من بعدهم، هم من بني جلتنا ويتكلمون بألستنا ويخوضون في شرع الله بغير علم ولا هدى، فيقوم الرجل منهم ويفتات على الله ويتجرأ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال له : إنك على معصية. فيقول : أين الدليل ؟ فيقال له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فيقول : لا تقل قال النبي كذا وكذا. فهذه سنة دخلها التحريف وهي من الآحاد، فإما أن تأتيني بنص من القرآن أو لا حاجة لي في نصيحتك؟ ويزعم بذلك أنه مسلم ومتبع، وهو يكذب الوحي الذي أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي القرآن ومثله معه، وهي السنة النبوية. فلا يخلو أمر من يقول بهذا الكلام أن يكون منافقا جاحدا زنديقا أو يكون جاهلا مقلدا لغيره، ويردد أقوال الذين سماهم الله في قوله : (( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله … )). فهؤلاء المتقولون على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أنكروا عذاب القبر، ونزول عيسى عليه والسلام، وخروج ياجوج وماجوج، و ظهور المسيح الدجال، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي لا تدرك بعقل ولا قياس. وعمدتهم في ذلك ما يبثونه من الشبهات عبر الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي، فيحسبون أنهم على شيء وهم ليسوا كذلك. فما أشد حسرتهم يوم القيامة حين يتبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا وتتقطع بهم الأسباب. فخلتهم واجتماعهم على الضلال المبين يصير يوم القيامة عداوة وبغضاء، قال تعالى : (( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )). ويقول الله عز وجل أيضا مخبرا عن الذي اقتفى أثر أهل الضلال والزيغ وأعرض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم : (( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا )). فيعض على يديه ندما وحسرة على ما فرط في دين الله قرآنا وسنة، ويندم على اتخاذه أهل الضلال والنفاق خلانا. ويبقى السؤال مطروح كيف نحقق الركن الثاني من الشهادة وهي شهادة أن محمدا رسول الله ؟ فإذا كانت كلمة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله تعني إفراد الله عز وجل بالوحدانية والعبادة وعدم الإشراك. فشهادة أن محمدا رسول الله تعني إفراده وحده بالاتباع كما قال تعالى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) وقال أيضا : (( وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )) وقال أيضا : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) وقال أيضا : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )). واتباعنا للعلماء هو في الحقيقة اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، لأن العلماء ورثة الأنبياء. وقد ثبت عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال : ( كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه الروضة ). فإذا وصلك كلام – أي حديث النبي صلى الله عليه وسلم – صححه الثقات من فحول أهل السنة كالبخاري ومسلم ويحيى بن معين وأبي زرعة والأعمش وحاتم الرازي وغيرهم من أسود السنة الذين قيضهم الله وحملهم أمانة التبليغ والدفاع عن دينه كتابا وسنة، فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فإذا وقفت على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفعلت له وعملت به فأنت فعلا تشهد أن محمدا رسول الله حقا وصدقا. وهذا إمام من أئمة الشافعية السبكي يحكي عن الإمام الشافعي في كتابه ” قول المطلبي – أي الشافعي – إذا صح الحديث فهو مذهبي، أي أنه إذا كان يقول بقول هو من صميم مذهبه ومنطلقه ثم وقف على حديث صحيح ضرب قول مذهبه عرض الحائط وأخذ بالحديث، لأنه يعلم أنه لن يسأل بين يدي الله عز وجل عن مذهبه وطريقته بل يسأل عما يقوم ويتحقق به التكليف الشرعي وهو القرآن الكريم والسنة النبوية. ولنضرب لذلك مثالا حتى تتضح الصورة. في الحديث الذي رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وذهبا فجعله في شماله ثم قال : (( إن هذين حرام على ذكور أمتي )). وفي رواية للترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم )). فليتصور أحدنا أنه جالس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الأمر والنهي منه مباشرة أكان يطيعه فيما أمر ويجتنب ما نهى عنه وزجر ؟ وكذلك إذا وصل النص عن النبي صلى الله عليه وسلم من عالم ثقة فإنه مبلغ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

إن هذا التصور يدفعنا للتساؤل مرة أخرى ما هي أسباب مخالفة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله ؟

أنا هنا لا أتحدث عن الذين يتبعون متشابه القرآن فيضربون بعضه ببعض ويعزفون عن المحكم منه ويردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ليسوا من العلماء لا في صدر ولا ورد. لكنني أتحدث عن الذين يدعون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيمون السرادقات و حفلات الإنشاد والمديح ويترنمون بالقصائد والمقامات ويظنون بذلك أنهم يحققون محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام. فالله وضع ميزانا يزن قول كل مدع للمحبة، فقال سبحانه : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )). فالمحب بحق لا يتجرأ على مخالفة حبيبه، فلا يرى في الدنيا أمرا إلا أمر حبيبه، ولا يرى نهيا إلا نهي حبيبه. وبالتالي ما نراه اليوم من سفلة الناس الذين يقعون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أصبحنا نسمع ونرى من ينادي بضرورة إقصاء الأحاديث النبوية التي لم تستسغها عقولهم العليلة، ورفضتها أهواؤهم المريضة، يؤكد على أن هناك أيادي خبيثة تحمل معاول الهدم لهدم صرح الإسلام. وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن الله عز وجل الذي رضي لنا الإسلام دينا وأتم علينا نعمة الهداية قد تكفل بحفظ دينه فقال : (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )). فكل من رام سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالثلب والتنقيص والتجريح لا يسلم من غضب الله وانتقامه في الدنيا قبل الآخرة. وهناك قصة حكاها أعيان المحدثين في مصر، وهو الإمام المحدث وكيل الأزهر أحمد شاكر رحمه الله. وتتلخص الحكاية في أن الملك فؤاد كان يحب أن يصلي خلف أحد الخطباء أصحاب اللسان العالي والفصيح، فصادف أن طه حسين الكاتب والأديب المعروف رجع من باريس بالدكتوراه وأرادوا تكريمه، فدخل الملك فؤاد لأداء صلاة الجمعة وبرفقته طه حسين، فلما صعد الخطيب فوق المنبر رأى طه حسين بجوار الملك فؤاد فأراد أن يمدح الملك فقال : ما عبس ولا تولى لما جاءه الأعمى . لم قال ذلك ؟ قاله لأن الملك فؤاد هو الذي أرسل طه حسين لاستكمال دراسته بباريس حتى حصل على الدكتوراه. فلما أتم خطبته وصلى بالناس، قام الإمام أحمد شكري وكان مع المصلين فقال : ( أيها الناس أعيدوا الصلاة ظهرا فإن الخطيب قد كفر ). وقصد الإمام شاكر أن الخطيب قد عرض بجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله معاتبا له لما جاءه ابن أم مكتوم الأعمى ليستنصحه والنبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع بعض سادات قريش ووجهائها، وقد طمع في إسلامهم، لكن لما دخل ابن أم مكتوم عبس النبي صلى الله عليه وسلم وكره دخوله عليه في هذا الوقت بالذات فنزل عتاب الله عز وجل : (( عبس وتولى أن جاءه الأعمى … )). فكان بعد ذلك كلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم فرش له عباءته وقال : (( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي )). ولذلك كان قول الخطيب الذي أراد مدح الملك فؤاد ما عبس ولا تولى لما جاءه الأعمى تنقيص من مقام النبي صلى الله عليه وسلم. ومرت الأيام والشهور والأعوام فدخل الإمام محمد شاكر ابن الإمام أحمد شاكر إلى أحد المساجد لأداء الصلاة فرأى ذلك الخطيب يعمل فراشا يتلقى نعال المصلين.

ولذلك من مظاهر محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في دار أبي أيوب ، فقال له أبو أيوب وكانت الدار تتألف من طابقين: (يا رسول الله اصعد إلى فوق)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) يعني أصحابي كثر، فإذا كنت في الدور الثاني ما من رجل يريد أن يصعد إلي إلا آذى من أسفل البيت، فلا داعي، فصعد أبو أيوب في الدور العلوي، والنبي عليه الصلاة والسلام أسفل الدار. يقول أبو أيوب في هذا الحديث: (وانكسر لنا حُب)، وهو الجرة العظيمة، (فجففته بلحافي أنا وامرأتي والله ما لنا غيره، خشية أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء، قال: فنزلت، قال: وبينما أنا أمشي بالليل إذ فزعت، وقلت: ( أأنا أمشي على سقيفةٍ تحتها رسول الله؟)، أرجلي الآن فوق رأسه؟ هذا سوء أدب، (قال: فانجمعت أنا وامرأتي) جلسوا في زاوية إلى الصبح، فلما أصبح (قال: فنزلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها، اصعد إلى فوق، فصعد… . هكذا كان الرعيل الأول يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسعون إلى رضاه، ويخشون غضبه. فلما كانوا كذلك أعزهم الله ورفع قدرهم ونوه بهم في كتابه الكريم.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email