Connect with us

أخبار

“عطاشة” الإحصاء بين الخطاب الحقوقي و التمثل الاجتماعي

Published

on

الوطنية بريس / بقلم طارق مرحوم

 

أغرق الفضاء الافتراضي مؤخرا على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، بنقاش حاد و غزير المتابعة، وذلك موازاة مع انطلاقة عملية تكوين المشاركين في الإحصاء، تمهيدا لإنجازه مطلع شهر شتنبر المقبل إلى نهايته، حيث نشب نقاش حاد أوقد فتيله خطاب حقوقي برى أن الضحية الأولى في هذا الوضع هو التلميذ، بعد علمه بمشاركة الأساتذة في العملية الإحصائية، هذا وصبت أغلب التدوينات في اتجاهين متضاربين: اتجاه يصف رجال التعليم و نساءه بأوصاف قدحية لمشاركتهم في الإحصاء، على اعتبار أن لهم عملا قارا، و اتجاه ٱخر يرى أن ذلك حق يخوله لهم القانون، بعد حصولهم على ترخيص من وزارة التربية الوطنية، والتي استجابت بدورها لتوجيهات الرسالة الملكية المؤطرة لهذه العملية، حيث دعت إلى تعبئة جميع الإمكانات البشرية و التقنية لإنجاح الإحصاء العام للسكان و السكنى، و الأساتذة شريحة عمالية كبيرة في كتلة الموارد البشرية للدولة.

 

و تبعا لذلك، أصدر رئيس الحكومة، منشورا دعا فيه إلى تقديم جميع التسهيلات القانونية والإدارية لكل موظفي و أجراء جميع القطاعات المهنية، قصد ضمان مشاركتهم في هذه المحطة الوطنية، لكن الخطاب الحقوقي ركز فقط على رجال و نساء التعليم، على اعتبار أن مكانهم الطبيعي هو القسم، رغم أن مغادرتهم للأقسام كان بصفة استثنائية وقانونية من لدن وزارة التربية الوطنية استجابة للرسالة الملكية المذكورة ٱنفا.

 

 

إن المتابع لهذا النقاش، يجد أنه مغلف بخطاب أخلاقي، مفاده: أنه لا يحق للعاملين بقطاع التعليم المشاركة في الإحصاء، لأن لهم عملا قارا، ولأنهم يخلفون وراءهم تلميذا ضحية، كما وصف هذا الخطاب الحقوقي رجال التعليم و نساءه المشاركين في الإحصاء بالعطاشة، وهذا الوصف نعتهم بهم دون غيرهم من الموظفين، وهنا نسائل جدلا هذا الخطاب الحقوقي بمنطقه الأخلاقي: ألا تخلف مشاركة موظفين ٱخرين تعطيلا لمصالح المواطنين؟! وهم بذلك ضحايا كذلك؟ فلم التركيز على قطاع التعليم دون غيره، رغم أن هذا الخطاب الحقوقي يدعي التشبع بمبدإ المساواة، و التشبث بقاعدة العمومية.

 

يعني وصف عطاش حسب هذا الخطاب الحقوقي: كل عمل مؤقت مقابل الربح ، وهذا التوصيف لا يقف عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه إلى ما يبثه في المجتمع أثناء التلقي الاجتماعي له، خصوصا إذا استحضرنا، أن الخطاب الحقوقي ربط بين مشاركة الأساتذة في الإحصاء، وبين حق المعطلين فيه، ما أدى إلى زرع نوع من الحقد الاجتماعي بين الفئتين، بولسطة خطاب حقوقي الأجدر فيه أن يكرس لقيم التعايش و التسامح و السلوك المدني، وأن يربط البطالة بأسبابها الحقيقية، و أن يدعو من مسؤوليته الحقوقية إلى سياسة تشغيلية ناجعة، وبذلك نشأ تمثل اجتماعي قدحي، مضمونه: أن رجل التعليم جشع لا كرامة له عندما أضاف عملا ٱخر مؤقتا إلى مهامه طمعا في المال، لكن التحرير الموضوعي للنقاش، يجب أن ينطلق من تعميم تعطاشت على جميع المهن، بشحنة حقوقية صرفة، فتعطاشت اذا تعني هنا: كل الأنشطة الربحية التي ينالها العامل أو الموظف من خلال مزاولته لمهام أخرى ربحية خارج وظيفته الأصل، و إذا جعلنا هذا المفهوم ينسحب على جميع المهن أخذا بقاعدة المساواة التي هي أهم ركائز الخطاب الحقوقي، سنجد أن كل موظف سواء كان طبيبا او صيدليا أو مهندسا… سيسعى إلى تحسين دخله كلما سنحت له الظروف، من خلال أنشطة أخرى خارج مهامه الأصلية، و هنا أتساءل: هل تعطاشت بهذا المفهوم، جائزة في حق الجميع إلا رجال التعليم؟!!! قد ينتصر قائل، بأن التلميذ ضحية لمشاركة الأساتذة في الإحصاء، لكن نتساءل: ألا يكون المريض ضحية غياب طبيب في مصحة عامة، و حضوره في مصحة خاصة؟!!! ألا يفوت عليه فرصة التداوي بتكلفة أقل؟ أليس الحق في الحياة أخطر من الحق في التعلم، فلا علم دون حياة.

إن ضجة تعطاشت أو عطاشة الإحصاء ، تتجاوز لحظية الإحصاء، إلى تكريس نفور اجتماعي موجه إلى موظفين دون ٱخرين، و ترسيخ تمثل اجتماعي، تلوح في ثناياه رسائل مضمونها أن الأساتذة دون غيرهم من الموظفين استولوا على حق المعطلين في التعويض عن هذه المهمة، و هكذا تم تحوير النقاش، ليسقط في دناءة السباب و ردة الفعل، وكان من الأجدر تأصيله و تعميم موضوعه، عن طريق التساؤل عن الأنشطة الإضافية التي يزاولها جميع الموظفين، وهل هي قانونية أم لا، إضافة إلى عملهم الخاص؟ و أيها أشد خطورة على المعطل و على المجتمع ككل؟ فإذا كان طبيب يمارس مهنته في القطاع العام، ويضيف إليه عملا ٱخر في مصحته الخاصة طيلة السنة، فهل هذا الوضع أقل خطرا من أستاذ في عملية إحصائية تتكرر مرة كل عشر سنوات؟ ثم هل ترك الصيدلي مكانه الطبيعي الذي هو الصيدلية لمساعدة تخلفه، ألا يشكل ذلك خطرا على حياة المعطل و العامل و الصغير والكبير…خصوصا إذا غلفنا هذا المشهد بغلاف حقوقي يصر على المعلومة الصحيحة للحصول على الدواء ضمانا لحق العلاج في أحسن الظروف؟ و إن كان القانون يجيز للصيدلي تعيين خلف له، أليس من المنطق الأخلاقي أن يظل الصيدلي في صيدليته بنفسه دون أن يعين من يخلفه؟و ألا يلجأ إلى الإنابة و إن كانت قانونية ضمانا لمصلحة المرضى، كما يطالب الأساتذة بعدم مشاركتهم في الإحصاء رغم قانونيتها؟

 

Advertisement
Ad Banner

عندما يلجأ الأستاذ الجامعي إلى فتح ماسترات مؤدى عنها، ألا يشكل ذلك خطرا على الطالب المعدم وغيره، ومصادرة لحقه في مجانية التعليم الذي يكفله الدستور؟…

 

أسئلة من هذا القبيل، والتي إذا عممناها على جميع المهن تجعلنا نتيقن أن الكل يتوق إلى تحسين دخله، بأنشطة ربحية ذات صفة دائمة، وتخلف بالمقابل ضحايا كثرا، فلماذا صمت الخطاب الحقوقي عنها، و تعالى صوته في تعطاشت لمدة شهر، و تتكرر مرة واحدة لمدة عشر سنوات؟!!! .

 

إن الخطاب الحقوقي الرصين في هذا الباب، يجب أن يسائل العدالة الأجرية، و التي عندما تغيب، تجعل الأقل أجرة في منظومة الوظيفة العمومية هو الأقل اعتبارا في المجتمع، فقوة المال تجلب الاعتراف و السلطة و التقدير، وهذا ما يفسر انتقاء نعوت مشينة تلصق بنوع من الوظائف دون غيرها، وهذا كله ـ وللأسفـ يتم من خلال خطاب حقوقي، كان من الأجدر له أن ينصر الحلقة الأضعف والتي تمارس تعطاشت حسب نعته، بشكل محصور جدا، حين تغيب استثناء عن فصول الدراسة، وفي شهر واحد لا تلقن فيه غالبا الدروس، و هو الأقل خطورة ضمن تعطاشت مهن كثيرة.

 

لقد خلف الخطاب الحقوقي المصاحب لمشاركة رجال ونساء التعليم في عملية الإحصاء نوعا من العنف الرمزي الموجه إليهم، حيث تناسلت النكت المهينة، و الأوصاف المشينة، الشيء الذي قد يتطور إلى عنف مادي في الواقع، حين شحن هذا الخطاب الحقوقي التمثل الاجتماعي ضد رجال التعليم المشاركين في الإحصاء، حيث صورهم على أنهم أكلة المال العام دون وجه حق، و أنهم سبب تردي الوضع الاجتماعي للمعطلين و حملة الشهادات عموما، ثم نصب نفسه محذرا من الإحصاء الذي سينسف حسب ادعائه الدعم الاجتماعي الموجه نحو الأسر، ما جعل بعض المدونين يتوعد من يطرق بابه، وهكذا تنامى نوع من التوجس الاجتماعي من الإحصاء، وقد يتسبب في تصرفات و سلوكات عنف موجهة إلى الباحثين و المراقبين جميعهم، ما يجعل الخطاب الحقوقي يمارس تعطاشت ضد المجتمع، بوعي أو بدون وعي، فإذا علمنا أن كل نشاط حقوقي يحتاج إلى تمويل مالي، فإن هذا التمويل غالبا ما يتحكم في التوجه الإيديولوجي للفكر الحقوقي، و هذا الخطاب الحقوقي إبان لحظة الإحصاء، يقف أمام متناقضين حين يعتبر الشذوذ الجنسي حرية شخصية، و المشاركة في الإحصاء عملا غير أخلاقي رغم قانونيته.

Continue Reading
Advertisement Ad Banner
Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *