أخبار

دور علماء المغرب في ترسيخ الوحدة الترابية ومقاومة الاستعمار

Published

on

الدكتور حسن الجامعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فكلما حلت فينا ذكرى الثامن عشر من نونبر التي تعتبر صفحة ناصعة في جبين تاريخ المغرب، حيث سطر آباؤنا وأجدادنا ملامح البطولة والفداء في مواجهة الاحتلال الإسباني والفرنسي، شعرنا بالفخر والاعتزاز والامتنان لكل شرائح المجتمع وأطيافه. فقد ضرب المغاربة الأمثال ببسالتهم وثباتهم في وجه الباطل، فما لانت لهم قناة، ولا خارت لهم عزيمة في محاربة المحتل الغاصب. فإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام. وعندما نتحدث عن المقاومة المسلحة يلزمنا استحضار نوع آخر من المقاومة وهي المقاومة الناعمة المتجلية في مقاومة علماء المغرب لمظاهر الاعتداء على الوحدة الترابية، وذلك من خلال التوعية الشعبية وفضح المخططات الاستعمارية عبر مؤلفاتهم وخطبهم التي ألقوها في المحافل الوطنية والدولية. من هنا سوف يكون موضوع هذه الكلمة حول دور علماء المغرب في ترسيخ الوحدة الترابية ومقاومة الاستعمار مندرجا تحت الترسيمة التالية:
مقدمة وقد مرت معنا.
ومبحث رئيس أتناول من خلاله نماذج من العلماء الوطنيين الذين عملوا على ترسيخ الوحدة الترابية ومقاومة الاستعمار.
وخاتمة وهي عبارة عن وقفات تصحيحية لشبهة مغرضة.
المبحث الرئيس: نماذج من علماء المغرب الذين عملوا على ترسيخ الوحدة الترابية ومقاومة الاستعمار
عندما أشرت إلى نوعين من المقاومة وهما المقاومة المسلحة قام بها أبطال أشاوس من الفدائيين الوطنيين المخلصين للعرش والوطن، ومقاومة ناعمة رفع لواءها علماء جهابذة من خلال ما سطروه وبينوه من حقائق شرعية وتاريخية ووطنية ألهبت حماس الشعب ووضعت المنهج السليم للمقاومة المسلحة، اعتبرت مقاومة العلماء أشد فتكا بالمستعمر، وأفضح لمخططاته الاحتلالية التوسعية، فحموا حمى الوطن وحافظوا على وحدته امتثالا للشرع الذي أمر بذلك. فقديما قيل لولا عياض لما عرف المغرب، القاضي أبي الفضل عياض بن موسى السبتي اليحصبي (1083 – 1149 ) صاحب كتاب ترتيب المدارك وتنوير السوالك، وإكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى وغيرها. فكذلك كان شأن العلماء الذين عاشوا محنة الاستعمار، وتعرضوا لأشد العذاب وأفتكه لكنهم صبروا واحتسبوا وقاوموا.
لا أريد القيام بجرد مفصل لكل العلماء الذين عاشوا محنة الاستعمار وساهموا بحظ وافر في استقلال المغرب والوحدة الترابية فهذا أمر يطول ولا يتسع الوقت لذلك، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وأول نموذج من هؤلاء الصفوة العلامة المفسر والأديب والمناضل محمد المكي الناصري ( 1906 – 1994 ) وهو من رجال الحركة الوطنية، شغل سفيرا بليبيا، وكان وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيسا للمجلس العلمي بولاية الرباط سلا، عمل من خلال سلسلة من الخطب والمواعظ والكتابات على فضح حقيقة الاحتلال، واعتبر مصطلح الحماية الذي تذرعت به فرنسا لبسط نفوذها على المغرب مجرد تزوير وقلب للحقائق، وأن وعود فرنسا التي بررت بها الاستعمار بأنها جاءت لرفاهية المغاربة وجلب المنافع، مجرد وهم وجناية واستغلال لخيرات البلاد، وسعيا لطمس الهوية الإسلامية ، وعملا على تفتيت الوحدة الوطنية. فألف كتابين الأول تحت عنوان ” فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى ” والثاني ” موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية ” ففي الكتاب الأول اعتبر المستعمر الذي استعمر المغرب عبر أذرعه الأخطبوطية من الساسة والمبشرين والعلماء المستعمرين جاء بسياسة فرق تسد، وأن الظهير البربري الذي وضعه في 16 مارس 1930 كرس من خلاله إحياء الأعراف البربرية القديمة قبل الإسلام وإدماجها في القانون الفرنسي لضرب الدين الذي يدعو إلى الوحدة والتضامن والالتفاف حول القيادة العليا. وفي الكتاب الثاني تطرق فيه إلى معاهدة الحماية كما يرويها الفرنسيون والاتفاق الفرنسي والانجليزي حول المغرب سنة 1904، وكيف بدأ مشروع الحماية وتوقيعها بذريعة جلب الرفاهية والحضارة.
النموذج الثاني: الأستاذ العلامة عبد الله كنون ( 1908 – 1989 )، وهو الفقيه الأديب والكاتب والمؤرخ والشاعر، أمين عام سابق لرابطة علماء المغرب، وأحد رواد إرساء قواعد النهضة الأدبية والثقافية والعلمية بالمغرب. ومن أفضل ما كتب في مرحلة بلغ فيها المغرب شيئا من الضعف بسبب الاستعمار الغاشم كتابه الماتع ” تاريخ النبوغ المغربي ” وهو ليس كتاب تاريخ كما يوحي به عنوانه وإنما تحدث فيه عن نبوغ العلماء المغاربة في العلوم الشرعية والكونية كالهندسة والفلسفة وغيرها. ويفي لبيان أهمية هذا الكتاب شهادة أمير البيان شكيب أرسلان ( 1869 – 1946 ) الكاتب والأديب والمفكر اللبناني الذي كان يتقن اللغة العربية والتركية والفرنسية والألمانية، يقول : ” كنت أظن أنني أعرف المغرب لكنني حين قرأت كتاب النبوغ المغربي أيقنت أنني كنت لا أعرف المغرب حق المعرفة”.
النموذج الثالث: العلامة والفقيه والأديب الأريب والشاعر المفوه محمد القري ( 1900 – 1937 ) نصير المرأة والداعي إلى تحريرها من ربق الجهل والاستعباد، والداعي إلى ضرورة تعليمها، والمنافح عن اللغة العربية، ظل ملتصقا بوطنه مدافعا عن الوحدة الترابية إلى أن تم اعتقاله، فعذب عذابا لم يعذبه أحد، حيث ساقه الجنود الفرنسيون إلى السجن وفي الطريق انهالوا عليه ضربا بالعصي حتى كسروا ظهره، ثم أخذوا يوقفونه بوضع العصي تحت عنقه وذقنه حتى إذا استوى واقفا سحبوا العصي فسقط على الأرض لا يستطيع أن يقف فقاموا بهذا الجرم مرارا وتكرارا، فلما عجز عن الوقوف نهائيا وطئه الجنود بأحذيتهم وضاعفوا الضرب والركل إلى أن فاضت روحه رحمه الله. ومن أراد أن يتوسع في سيرة هذا البطل فليطالع كتاب العلامة البحاثة رائد الفكر الإسلامي بالمغرب محمد إبراهيم الكتاني ” ذكريات سجين مكافح “.
خاتمة، وهي عبارة عن وقفات تصحيحية لشبهة مغرضة.
الحديث عن دور علماء المغرب في ترسيخ والمحافظة على الوحدة الترابية ومقاومة الاستعمار يحتاج إلى ندوات ووقفات تأملية لاستنهاض الهمم وبعث جيل قوي ومتين، وإذابة جليد الوهن والضعف والاستكانة التي يعيشها شبابنا اليوم، فما عرفوا حقيقة هؤلاء الصفوة الذين ضحوا بكل غال ونفيس ليستقر الأمر وتنعم الأجيال اللاحقة بالاستقرار. وللأسف كلما وقعت واقعة شاذة في المجتمع تصنف في خانة الإرهاب الفكري والمادي كما حصل مع السائحتين الدانمركيتين وسلسلة الأعمال الإرهابية التي عرفها وعاشها المغرب، إلا وقام من لا يحسن إلا الكلام والنقد الهدام فدعا إلى ضرورة إعادة صياغة الشأن الديني بإغلاق الكتاتيب القرآنية باعتبارها محضن تفريخ الإرهاب وتصديره، وحل المؤسسات القائمة على الشأن الديني بدعوى أن القائمين على هذه المؤسسات ظلاميون ومتزمتون ومتخلفون وغير حداثيين. وهذه الألقاب وغيرها إن دلت على شيء فإنما تدل على الإفلاس الأخلاقي و انتفاء الطرح العلمي والسجال بالحجة والبرهان، فهذه حجة الضعيف الذي لا يحسن التنظير ومقارعة الدليل بالدليل. وهذا ديدنهم في كل زمان ومكان، فإبراهيم الخليل لما أفحم بالحجة والبرهان العقلي قومه قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم. فإذا كانت النجوم أمنة السماء إذا غارت أتى السماء ما توعد، فالعلماء أمنة الأرض إذا انقرضوا أتى الأرض ما توعد، ففي الحديث الصحيح : (( إن الله لا يقبض العلم ينتزعه من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )). وفي حديث آخر: (( يأتي على الناس أيام خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة. قالوا وما الرويبضة ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )). فالعلماء حصن الأمة ودعامة أساسية لقيامها، بهم ينير الله قلوب الغافلين، ويحيي مواتها، فلا تستقيم الحياة ولا يتحقق التقدم والازدهار إلا بوجودهم. أكتفي بهذا القدر فأعتقد أن فيه كفاية والحمد لله رب العالمين.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأخبار الشائعة

Exit mobile version