الدكتور حسن الجامعي
الحمد لله الذي خلق الخلق لغاية عظمى، وحكمة كبرى، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وقدر بينهم الفتن ليعلم الدعي منهم أو الأعلى قدرا، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الورى النبي المصطفى والرسول المجتبى وعلى آله وصحبه ومن وفى واقتفى.
وبعد، فموضوع الفتنة من المواضيع التي يجب مدارستها واستخراج العبرة منها والإفادة من الحلول الناجعة لمعالجتها، أما التغاضي والتغافل عن مدارستها فهو أمر جد خطير وشر مستطير. وانطلاقا من الموضوع الذي سوف أتناوله تحت عنوان : ” الفتنة وموقف الشرع منها وكيف عالجها ” أقول بأن الإسلام حرص كل الحرص من خلال نصوص الوحيين قرآنا وسنة على تنبيه المسلم إلى الفتن وذكر علاماتها ومقدماتها وأزمانها وأماكنها وأناسيها بأوصافهم وأحوالها وأهدافها ليكون المسلم على بينة مما يثار فلا يفاجأ بشرها ولا يغتر بما يروجه الفتانون. وعليه سوف أحدد خطوط المداخلة في النقط التالية:
مقدمة تعريفية لمصطلح الفتنة ومراتب الناس أمامها
المحور الأول: موقف الشرع من الفتنة وما يجب على المسلم اتجاهها
المحور الثاني: كيف عالج الشرع الفتنة ؟ وبعض التوصيات
مقدمة تعريفية لمصطلح الفتنة ومراتب الناس أمامها
أولا: تعريف الفتنة لغة واصطلاحا: تعددت تعاريف علماء اللغة حول كلمة فتنة وإن كانت المعاني متقاربة حسب السياق الذي جاءت فيه. فالجوهري في الصحاح عرفها بقوله : ( الفتنة الامتحان والاختبار، تقول فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر جودته، ثم استشهد بقوله تعالى : (( إن الذين فتنوا المومنين والمومنات )). وإلى هذا التعريف ذهب ابن منظور في اللسان، والزمخشري في الفائق في غريب الحديث، والراغب الأصفهاني في مفردات القرآن. وأما الخليل أحمد الفراهيدي فعرفها بقوله : ( الفتن، بفتح الفاء وإسكان التاء الإحراق ومنه قوله تعالى : (( يوم هم على النار يفتنون )) أي يحرقون. ويسمى الصائغ الفتان لأنه يفتن الذهب والفضة بالنار ليميز الرديء من الجيد. وأما ابن الأعرابي فعرفها في المعجم بقوله : ( الفتنة الاختبار والمحنة والمال والأولاد والكفر واختلاف الناس في الآراء والإحراق بالنار ). ولها معان أخرى كإعجاب الكفار بكفرهم لقوله تعالى : (( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين )). أي لا تظهرهم علينا فيعجبوا ويظنوا أنهم خير منا. وأيضا تحمل على الوله والحب والعشق فتقول : فتن الرجل بالمرأة وافتتن. وفي الاصطلاح قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن : ( والفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى ومن العبد، كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، فما كان من الله فيكون على وجه الحكمة، وما كان من الإنسان بغير أمر الله فيكون بالطيش والسفه والجهل. وقد ذم الله عز وجل الإنسان الجهول بأنواع الفتنة كقوله تعالى : (( والفتنة أكبر من القتل ))، وقوله : (( بأييكم المفتون ))، وقوله أيضا : (( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )). وقد تستعمل أيضا في الشر والخير معا كقوله تعالى : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )). وجماع الكلام في التعريف اللغوي والاصطلاحي والعلاقة بينهما أن الفتنة لها مقاصد تظهر المؤمن الصادق من الدعي، وتنبئ عن سوء الطوية وتخرج خفايا القلوب ودغلها، قال تعالى : (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فاتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )). وأيضا قال : (( ما كان الله ليذر المومنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ))، أي بالفتنة والاختبار والابتلاء.
ثانيا: مراتب الناس أمام الفتنة: الناس ليسوا سواسية أمام الفتنة واستعدادهم لاستقبالها، فهم معادن اتجاهها، فمنهم من يفتن نفسه بنفسه، ومنهم من يفتن غيره، وقبل الحديث عن هذا الصنف يجدر الكلام عما يختبر الله به عباده من الفتن حيث ينقسمون إلى قسمين، قسم يدعي الإيمان بلسانه لكنه عند الاختبار يظهر معدنه الأصلي فلا يستطيع صبرا على المحن، قال تعالى : (( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ))، أي تصده عن الإيمان والثبات على الحق، ويجلي هذا المعنى قوله عز وجل : (( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين )). بخلاف المؤمن فأمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. أما النوع الثاني من الفتنة فهو فتنة الناس بعضهم بعضا، وهذا هو مربط الفرس في موضوعنا، فقد جرت سنة الله الكونية أن يفتن الناس بعضهم ببعض، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: قسم من قبيل الاختبار والبلاء كافتتان المسلم بالكافر، والعكس، والغني بالفقير والعكس، والضعيف بالقوي والعكس. وقسم يسعى في الأرض فسادا فيفتن الناس بالفتنة النائمة فيثير بذلك التفرقة والإفساد في الأرض وعدم الأمن والاستقرار. وهذا القسم هو مناط حديثنا في هذه المداخلة من خلال المحور الأول.
المحور الأول: موقف الشرع من الفتنة وما يجب على المسلم اتجاهها ؟
نعمة الأمن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، فبلد يعيش أهله التفرقة وإشاعة الفتن والاضطراب لا ينعمون بالسعادة والاستقرار، ولذا نجد في القرآن الكريم كيف امتن الله عز وجل على أهل مكة بهذه النعمة العظيمة في سورة قريش، قال تعالى : (( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ))، فقوله لإيلاف أي ائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين زيادة على ما حباهم من هيبة ومكانة في قلوب سائر القبائل العربية بحيث أنهم ينظمون رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام فيرجعون سالمين غانمين إلى بلد الله الحرام. لكنهم بعد عتوهم وتكذيبهم وجحودهم الرسالة المحمدية أذاقهم الله لباس الجوع والخوف كما قال تعالى : (( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )). وذلك لما كفروا بأعظم نعمة وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم بسبع سنوات قاسية كسبع يوسف فأصابتهم سنة شدة حتى أكلوا وبر البعير. من ثم تعامل الشرع مع الفتن أولا بمنهج وقائي قبل وقوعها، فحذر منها قال تعالى : (( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب )). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( يحذر الله تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره ولا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل تعم الجميع ) وكذلك حذر منها رسولنا صلى الله عليه وسلم كحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل )). وعلى هذا وجب على المسلم أن يحتاط لأمره فيبتعد ما أمكنه عن دائرة الفتن ولا يقربها ويختلط بأهلها، ولا يستشرفها أي يتطلع لها، فمن تطلع لها تطلعت له وأقبلت عليه، وإذا أقبلت جاءت في صورة شابة فتية فدمرت كل بناء وسفكت الدماء حتى إذا أدبرت أدبرت عجوزا شمطاء. فالعالم بما أوتي من نور يرى قدومها ونتائجها، وأما الجاهل فلا يعرف حقيقتها حتى إذا ولت ندم على ما فرط في حق أهله وحق وطنه.
المحور الثاني: كيف عالج الشرع الفتنة ؟ وبعض التوصيات:
لما كانت الفتنة على ما هي عليه من إشاعة العذاب وعدم الأمن ونشر الذعر وما تسببه من إراقة الدماء وإهلاك الممتلكات العامة والخاصة وانتشار أعمال السلب والنهب في المجتمع فتعمي أصحابها عن الحق بما يتلقونه من الشبهات والباطل فينهكون المسلمين اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، وأنه من دنا منها أخذته ومن حام حول حماها أوقعته، فطن النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة فوضع أسس المحبة والإخاء بين المهاجرين والأنصار، كما أبرم عقد مهادنة وسلم مع اليهود وباقي الأجناس غير المسلمة، ومن ثم فقد عمل ديننا الحنيف على احتواء الفتنة ووضع حلولا ناجعة لإطفاء نارها، ومن أهم هذه الإجراءات وهي في نفس الوقت توصيات:
أولا: الرجوع في النوائب الكبرى والنوازل العظمى التي تشغل الأمة إلى أهل الشأن والرأي والحكمة، وهؤلاء هم العلماء في كل الاختصاصات مع استشارة أهل الاختصاص فيما يحسنون، ولذا نعى القرآن الكريم على المتهورين الخائضين في الشأن العام دون رجوع إلى أهله فقال سبحانه : (( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم … )).
ثانيا: تربية الناس وتعويدهم على أخذ فتاويهم الدينية من العلماء المؤهلين لا من شذاذ الآفاق المحسوبين على العلماء، فهذا الباب لما فتح على مصراعيه وتجرأ على الفتوى والقضايا الكبرى التي تقرر مصير الأمة  حدثاء الأسنان كانت النتيجة اندلاع الفتنة التي تدمر ولا تعمر.
ثالثا: الالتفاف حول القيادة العليا وتمتين الروابط والمواثيق بين الراعي والرعية على المحبة والسمع والطاعة في المعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والدعاء له لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونهم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم من تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم شيئا تكرهونه من ولاتكم فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة )).
رابعا: ترشيد الإدارات العمومية وإعادة ثقة المواطنين بها، وتسهيل عملية وصول الخدمات لطالبيها، فالإدارات أسست أساسا لخدمة المواطن وتلبية حاجياته دون عراقيل أو محاباة وهذا لا يتأتى إلا بمحاربة الفساد والمتمثل بالأساس في الرشوة.
خامسا: العمل على تطهير المجتمع من أهل الانحراف والرذائل، وذلك بإعادة تأهيل المنحرفين الذين يعيثون في الأرض فسادا وفق خطة علمية تربوية محكمة لا شرقية ولا غربية، بل نابعة من خصوصيات بلدننا وديننا الحنيف.
سادسا: نظرا لتوافد الأفكار المنحرفة سواء الدينية أو اللادينية لزم العلماء المنضوين تحت المؤسسات المعنية بالشأن الديني الذين قيضهم الله لنفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عن الدين بتتبع منابت هذه الأفكار الهدامة وتصحيح المفاهيم.
سابعا: إعداد حقائب علمية تدريبية تخصصية في كل المجالات لتطوير الذات والارتقاء بالمهارات والنهوض بالمجتمع حتى نكون بذلك قد حققنا نموذج الإنسان الكامل في إنسانيته صاحب قدرات عظيمة التي بها يخدم وطنه ويسعى إلى استقراره وأمنه.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RSS
Follow by Email